انسحاب لاعب وتهليل جمهور للهزيمة
تاريخ النشر : 2016-08-09 19:54

انسحب كثيرٌ من اللاعبين العرب، والمسلمين أيضًا، عبر تاريخ الرياضات العالمية من كثير من المسابقات بذريعة مشاركة لاعب إسرائيلي في مسابقة ما، أو حتى لا يواجه اللاعبُ لاعبًا أو لاعبة إسرائيلية... انسحابات حتى الآن تقابل من قطاعات واسعة من الشعوب العربية بالرضا والاستحسان، ولا أعلم سرّ هذا الاستحسان والتهليل للاعب ترك المواجهة وتلفّع بشعارات بائسة...!

التاريخ العربي منذ النكبة حتى يومنا هذا، حمّل شعوبه كثيرًا من الأفكار التي نبعت في كل مرحلة من قاعدة الصراع مع الإسرائيلي، كان أبرزها فكرة المقاطعة العربية لإسرائيل، فكرة تستند لرفض الاعتراف بإسرائيل دولة موجودة، مع أنها أوجدت واقعًا لا شعارًا على أنقاض ذكريات شعبٍ حيّ حتى اليوم. قاطع العرب، واستمرّت إسرائيل في النمو متغذية على شرايين الفلسطينيين.. وعلّم العرب، أبناءهم عبر العقود الماضية أنّ العدوّ زائل، لكنّهم لم يعلموا أيّ أحد كيفية المواجهة، وعناصر الصراع مع الإسرائيلي.

المواجهة العربية الإسرائيلية تحمل صراعًا بين ثقافتين متناقضتين، وهويتين مختلفتين، إنها مُنازلة في كل النواحي التي يطرق بابها الإسرائيلي ليعزز حضوره فيها. هذا ما قيل كثيرًا لكنّ النماذج الانتهازية في السياسة العربية عززت في وجدان المواطن العربي أن "عدم المواجهة" انتصار، والانسحاب من مضامير الصراع غير العسكرية طهر وتعفف وفخر.

 هذا هراء بحت، وتذرع لا قيمة له على أرض الواقع، فالمقاطعة التي يفهمها الكثيرون على إنها مقاطعة كل شيء حتى المُنازلة، فكرٌ مشوه غير واقعي مُستكين... كيف تُترك ميادين المواجهة الثقافية والرياضية العالمية للإسرائيلي كي يتحرك فيها كيفما يشاء، بينما ينسحب أبناؤنا زورًا باسم الوطنية وهم يلوحون بأعلام بلدانهم بعد اختيار طوعي للهزيمة؟

ألستم الأقدم حضارة وتاريخًا وإطلالة على التاريخ والأحق بالتواجد في كل مكان في العالم لأنه تواجد مشروع بهوية حقيقية لا اغتصاب فيها لحق، ولا عدوان فيها على أحد؟ كيفَ يُترك الإسرائيلي ليعرض بضاعته بطريقة مشروعة بينما ننعزل في أفكارنا ونمنح العالم الذي ينتظر موقفنا وكلمتنا صمتَ المهزوم، كي نحتفل وحيدين بكذبة الانسحاب المُشرّف؟

أليس من حقنا نحن العرب أن نشهد تلك المُنازلات الرياضية والثقافية وأن نحتفي بهزيمة الكلمة والفعل الإسرائيلي بيدِ عربيّ؟ وبعيدًا عن هذا المنظور الضيق الذي يُسيّسُ الرياضة، أليس من حق المواطن العربي أن يخوض ممثلوه الرياضيون غمار البطولات حتى نهايتها كي يمتلك سعادة التفوق بين شعوب العالم؟

المقاطعة لإسرائيل تعني مقاطعة التعامل معها اقتصاديّا، ورفض تطبيع العلاقة السياسية معها وصولا للعلاقة لشعبية، ولا تعني الاختفاء والتهّرب والثناء على يد الانسحاب من ميادين المنازلة، وإن كانت في لعبة رياضية.

إن أبسط ملامح الصراع، ولعبة المواجهة في المصالح أن تبحث عن انتشار خصمك وطموحاته وتنازله فيها، أن تخوض الاقتصاد والثقافة والعلوم وتضع قوتك في مواجهته.. لكننا صرنا لا نجيد سوى الاختباء في معازلنا وسجوننا الفكرية المبنية على الخوف، الخوف من أنفسنا، والتذرع بشعارات بائسة في إقناع أنفسنا بصواب الهروب من الواقع الذي يقول: إن إسرائيل موجودة وتمارس السيادة على أرض احتلتها، أمام العالم، وتنتشر بين الشعوب بثقة تعزز من أمد الاحتلال.

حتى في تقوية أواصر العربي بالعربي، وإسناد صاحب القضية بالحضور، ترك العرب هذا المحفل وتذرعوا بالتطبيع وزيارة إسرائيل، هذا البعبع المنصوب على أعناق المبدعين والفاعلين في المجتمع العربي، بينما تجيد الدول إخفاء علاقاتها مع البعبع نفسه! انفصام ما بعده انفصام.

الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي يحتاج إلى توظيف كل القدرات والمهارات، هذه حقيقة واقعة، صراع الرواية أمام الرواية، والشعر أمام الشعر، والرياضة والاقتصاد والعلم، لم يعُد صراع بندقية فقط، ولم يتوقف عند مفاهيم الأربعينات والرومانسيات التي لا تليق سوى بحقب ما قبل التاريخ الحديث.

إن انسحاب رياضي عربي من مواجهة رياضي إسرائيلي ليس فخرًا ولا مروءة، بل فرارٌ وانهزام وضعف في الثقة لا يستوجب تهليل الجماهير... هو ضعفٌ يحرمنا من الاستمتاع بجزء من الانتصار، وإن كان في الملاعب، أو على أوراق الكتب.