مبادرات "رواد فلسطين" اليوم .. اقتصاد المستقبل
تاريخ النشر : 2019-06-23 10:39

تتنوع التجارب والنماذج المحلية والدولية في مجال المبادرات الريادية وأفكار الشباب لخلق فرص تشغيل ذاتية، لا سيما مبادرات خريجي الجامعات والمجتمع الأكاديمي بشكل عام، وتسعى مختلف الدول الى تحفيز مبادرات الشباب، وتنشيط مبادرات المشاريع الصغيرة والريادية، كونها من الأدوات المهمة لمواجهة البطالة والفقر، وفي الواقع الفلسطيني تعتبر هذه المبادرات من النماذج المهمة التي حققت قصص نجاح وولادة العديد من المشاريع الصغيرة والفردية التي تحولت الى مؤسسات رائدة على صعيد الاقتصاد الفلسطيني.

بالطبع ليس كل مبادرة فردية أو مشروع صغير سيكون قصة نجاح تلقائية، فالعديد من الأفكار والمشاريع تولد سريعا وقد تخرج من السوق بشكل سريع أيضا لأسباب متنوعة، فمعرفة المبادر أو صاحب المشروع والصانع لأسرار الصنعة لا تعني نجاح المشروع بكل سهولة ويسر. فهناك عناصر كثيرة يتطلبها النجاح: التحضير والتجهيز الفني للمشروع، التسويق، وإدارة التكاليف بكفاءة، زيادة الإنتاجية، وتحسين الأداء المالي، وتحقيق معدلات جودة وسعر تنافسية في السوق.. وغيرها من الأسباب والعوامل. هذه العناصر أو بعضها لن تكون ضمن المهارات التي يتقنها صاحب المشروع المبتدئ في أغلب الأحيان، خاصة حينما يتعلق الأمر بالخريجين الجدد أو الطلاب على مقاعد الدراسة الجامعية، الأمر الذي يتطلب وجود حواضن وخدمات مساندة لمبادرات الرواد من أصحاب المشاريع الصغيرة، وكذلك وجود مؤسسات تضع على رأس أولوياتها هذه المهمة.

على أرض الواقع تتنوع مبادرات الشباب الفلسطيني في مجال المشاريع الريادية، والملفت للنظر انها مشاريع تتسع لمساحات جيدة من التنوع سواء من حيث طبيعة أنشطتها الاقتصادية، وكذلك مساهمات النوع الاجتماعي، حيث تتعدد المشاريع التي تقودها نساء، وتتنوع المشاريع التي أطلقتها طالبات جامعيات حتى خلال تواجدهن على مقاعد الدراسة الجامعية.

انها ظاهرة تستحق المتابعة والرعاية من قبل الجهات المعنية بتطوير وتنشيط هذه التوجهات، فكم نحن كمجتمع وكاقتصاد وكوطن نحتاج الى جيل منتج لبناء مشروع الدولة المستقلة من كافة النواحي، وكم هو مفيد للمجتمع أن يتسابق أبناؤه الشباب في مبادرات انتاجية تبني جيلا مختلفا ومعتمدا على نفسه، جيلا يحارب وقت الفراغ بالإنتاج، جيلا ينقل الاهتمام من اضاعة الوقت والإنفاق الاستهلاكي الى مبادرين ورياديين يحققون قصص نجاح تمكنهم من بناء الذات والاستقلال الاقتصادي، ويساهمون في تمكين اقتصادنا من الاعتماد على الذات وتحقيق مستويات أفضل من الاكتفاء الذاتي!.

توقفت عند عدد من مشاريع ومبادرات لعدد من الطالبات الجامعيات أو الخريجات حديثا، واللواتي أسسن عدداً من المشاريع الخدماتية والإنتاجية بالتزامن مع تواجدهن على مقاعد الدراسة الجامعية، ووفق إفادة هؤلاء الرياديات فإنهن تمكن من تنظيم أفكار مشاريعهن ومن ثم القيام بعدد من الشراكات مع مشاريع قائمة، وتوزيع أوقاتهن بين الدراسة والاشراف على تلك الشراكات، وقد ساهم ذلك في اشغال أوقاتهن في عمل منتج وتوفير مداخيل اضافية تخفف عن كاهل أسرهن تكاليف الدراسة، لا بل أن بعضهن قد تمكن من المساهمة الفاعلة في ميزانيات أسرهن من خلال ايرادات تلك المشاريع.

ينبغي الاشارة إلى أن المشاريع الصغيرة والريادية تختلف من حيث قابليتها للنمو والصمود في الأسواق للعديد من الاسباب، وتجارب الدول تظهر ان العديد من هذه المشاريع تولد سريعا وتخرج من السوق بشكل مفاجئ أيضا، فهناك مشاريع صغيرة ذات أفكار مميزة وقابلة للتوسع والتطوير بشكل سريع، ولكنها تفتقد لبعض العناصر المساعدة على النمو والبقاء والاستمرار في أسواق المنافسة، سواء لحاجتها للتمويل اللازم للتطوير، الإدارة المهنية، أو الخبرة العملية وكيفية التعامل مع الأسواق على أرض الواقع والوصول لأسواق جديدة، وقصص النجاح التي حققتها الدول ترتبط بمدى التغلب على النواقص وعلى مدى توفر مقومات الصمود، لأن توفير هذه المقومات يساهم بشكل مباشر في استمرارية هذه المبادرات على قيد الحياة والانتاج وزيادة مدخولاتها ونموها بشكل متصاعد ومستمر مما يجعلها بيئة جاذبة للمستثمرين، هذه هي نقطة مهمة لتحريك العجلة الاقتصادية، فالعديد من عمليات الاستحواذ الاقتصادي التي تقوم بها الشركات الكبيرة تكون بالاستفادة من امتلاك قصص النجاح للمبادرات والمشاريع الريادية.

وفي الاقتصاد الفلسطيني والذي يتسم بهيمنة المنشآت الصغيرة والمتوسطة عليه، فإن الاهتمام بالمبادرات الريادية يشكل خياراً مهماً لتوفير محرك للنمو المؤسساتي والعمليات الانتاجية بالاستفادة من أفكار الشباب، ونجاح هذه العملية يشكل اضافة مهمة لعملية التنمية المستدامة وتمكين الشباب وتقوية المجتمع الفلسطيني المنتج، وهي خطوة مهمة لبناء جيل جديد من الشباب الذي يتسابق لخلق فرص العمل واستثمار طاقاته ووقته في أفكار انتاجية، انها عملية نجاح لكافة الجهات المعنية، الأسرة، والقطاع الخاص، والقطاع العام والحكومة والمشروع الفلسطيني بصفة عامة.

في العديد من الدول تبذل الجهات التنظيمية وأطر تحفيز أفكار الإبداع والابتكار والريادة جهوداً متواصلة لخلق بيئة انتاجية مبتكرة في أوساط الشباب، لأن شباب اليوم هم مجتمع وقادة المستقبل، فقد  استثمرت العديد من الدول في مجال بناء الحواضن المساندة للمشاريع والأفكار الريادية، وتم تخصيص منصات لقصص النجاح، وتم تطوير سياسات وبيئة تشريعية محفزة لهذا القطاع المهم لتحريك العجلة الاقتصادية، وتم تطوير العديد من المبادرات لحماية العقول وتوطينها وتجنب هجرتها، وتم تطوير منظومة من القوانين لحماية الملكية الفكرية وتشجيع التفكير الخلاق والابداعي في أوساط الشباب، كما قامت بتوفير بيئة محفزة لتطوير القدرات التنافسية للمشاريع الريادية، وايجاد حلول للعقبات والتحديات التي تواجهها مشاريع الشباب، وتم تطوير العديد من السياسات واستراتيجيات التكامل الانتاجي بين محركات الانتاج الاقتصادي وتوفير الحماية الايجابية للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.

نحن مطالبون وعلى مختلف المستويات بتقديم متطلبات النهوض بدور المشاريع الريادية في الاقتصاد الفلسطيني، علينا الانطلاق في تنمية التفكير الخلاق والابتكاري لدى طلابنا من الصفوف الأولى في المدارس وصولاً للجامعات والمعاهد المهنية، علينا تخصيص جزء من المنهاج لتغطية الابتكار واستشراف المستقبل، علينا توفير منصات للابتكار الطلابي وحواضن للمشاريع الريادية من الجامعات، على مؤسساتنا المعنية توسيع نشاطها ليشمل الكل الفلسطيني، فربما نجد العديد من المبادرات في مناطق لا يصلها الضوء والإعلام، ولكنها قصص تستحق الابراز والاظهار، علينا التعلم من التجارب الدولية الناجحة في هذا المجال، وهذا دور المؤسسات الرسمية المنظمة لهذا القطاع، أن تبني شراكات، وتطور مذكرات تعاون، وأن تفتح المجال لمبادراتنا الريادية للاطلاع والتعلم من غيرها، سياسة ايجابية وتحفيزية تأخذ بيد تلك الأفكار والمشاريع لتتجاوز العقبات والتحديات وتحويلها لقصص نجاح ومحرك منتظم لعملية التنمية الشاملة والمستدامة.

يبقى أن نقول إن المشروع الريادي قد يكون الآن مجرد مشروع صغير لديه قدرة أو قابلية للنمو بدرجة معينة لانه يعتمد على قدرات صاحبه الذاتية، وقد لا يكون معروفاً وربما صغيراً مقارنة بغيره من الشركات في ذات السوق وقد ينحصر نشاطه ضمن نطاق جغرافي صغير، يملكه ويموله عدد بسيط من الفتيات أو الذكور، وقد يكونون هم الإدارة وفريق الانتاج، ولكن نجاح المشاريع الريادية وتمكينها يؤديان الى تقديم خدمات أو منتجات أفضل وبشكل مختلف، رغم ما يصاحبها من خطورة عالية بعدم نجاح الفكرة وتقبل أو استيعاب السوق لها، وعلينا ان نتذكر بأن الفكرة الريادية لا تعني بالضرورة أنها ناجحة وتحقق لصاحبها الأرباح، والمنشأة أو الفكرة الصغيرة لاتعني أنها ستبقى صغيرة الى الابد ولن تحقق الأرباح.