الصين .... عندما تضحك!
تاريخ النشر : 2020-03-18 10:17

سنضحك جميعاً وستضحك معنا الكرة الأرضية لأننا سنطمئن بأن كابوس كورونا قد زال وأن الدولة التي انتشر بها هذا الوباء قد حاصرته وبدأت مسيرتها المطلوبة لإنقاذ العالم منه ومن براثنه. وسنضحك جميعاً على سخريات القدر بأننا قد ذهبنا لاكتشاف المجرات وزيارة الكواكب وسياحة القمر ورفاهيات الحياة، لنعود ونتعلم من جديد أهمية غسل اليدين.

 

سنضحك أو نبكي لأن البعض منا قد سخّر المال لبناء القنابل النووية والجرثومية والكيميائية، وصواريخ عابرة للقارات، وقنابل ذكية، وحاملات للطائرات ومناظير ليلية وفرقاطات عسكرية وجيوش جرارة لنعود ونتعلم أبسط أبجديات الحياة ألا وهي النظافة الشخصية.

 

وسنضحك أو نبكي لأن البعض منّا قد دفع للمصارعين والملاكمين ولاعبي كرة القدم ومستحضرات التجميل والعمليات البلاستيكية، ومضادات الشيخوخة أكثر مما دفع للعلم والعلماء، وبناء مراكز الأبحاث العلمية والجامعات ومؤسسات التعليم المهني، ورقمنة التعليم ومحاربة الأمية، وقتل الجهل والتخلف والفقر والجوع. وسنندم ندماً كبيراً عندما ضحكنا على الصين واستخف الكثير منّا بقدرات العرق الأصفر على العمل والإنتاج والإبداع حتى تندر الكثيرون على المنتج الصيني وكفاءته، وتدني سعره وجودته أحياناً.

 

الصين اليوم التي ظهرت فيها حالات الكورونا أولاً، ربما تتحول إلى المخلص الأول للبشرية. فعندما توعكت… توعكنا وعندما تعود إليها الحياة ستعود إلينا الروح. معجزة الصين في مقاومة الكورونا ربما تجعلنا نشكر الله على أن المرض ظهر في الصين، وقتل في الصين، لما تملكه هذه الدولة من إمكانيات وقدرات خارقة على العلم والعمل، والسرعة والإبداع والحزم والدقة والعزم والإرادة. وحتى لا يبقى الكلام في إطار التعبير الإنشائي والثناء العاطفي لنراجع شيئاً من تفاصيل واقعة كورونا.

 

في السابع والعشرين من الشهر الماضي سجلت دول العالم الأخرى إصابات أعلى مما سجل في الصين على مدار شهر كامل، ليعود الرئيس الصيني في العاشر من هذا الشهر ويعلن نبأ السيطرة على المرض.

 

وقد تحقق هذا الأمر بعد أن أعتقد البعض أن الصين فقدت السيطرة، بفعل الانضباط المجتمعي الكبير وقدرة الدولة على إدارة أمورها وتحطيم الأرقام القياسية في إدارة الأزمات، وامتلاك التقانة الفاعلة ليس من باب الاستهلاك فحسب، وإنما أيضاً من باب الإنتاج والإبداع والتميز. فقد ساهم التطور التكنولوجي الهائل للصين في وقف مسلسل الرعب الذي أحدثه الفيروس، بحكم المراقبة اللصيقة للسكان وسرعة الاستجابة وتنفيذ أكبر حجر صحي في العالم طال 60 مليون شخص دفعة واحدة، إضافة إلى بناء مشافٍ للطوارئ في زمن قياسي لم يتجاوز عشرة أيام، واستخدام التكنولوجيا عبر تبني مفهوم التباعد الاجتماعي وتقليل الاحتكاك بين البشر، باستخدام الروبوت الممرض القادر على إتمام القراءات الصحية الفردية، وبنسبة خطأ صفرية، واستخدام الروبوت المعقم لتجنب الدخول إلى المواقع الموبوءة، إضافة إلى توظيف الروبوت الجوال الذي يتجول بين المجمعات السكانية لبث النصائح والإرشادات الطبية اللازمة لمواجهة الفيروس.

 

ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل استخدم روبوت إيصال الطلبات، الذي خصص للتعامل مع المصابين، إضافة إلى توظيف خوذ الرأس الذكية، التي استخدمتها الشرطة في قياس الحرارة، وتشخيص الوضع الصحي الأولي للأفراد عن بعد.

 

وقد وظفت الصين أيضاً 300 مليون كاميرا منصوبة في جميع أرجائها، للاستشعار عن بعد، واستحضار الملف الشخصي لكل مواطن، عبر التعرف على الوجه وتحديد الشخصية، ومراجعة السجل الصحي إلكترونياً، وتنبيه السلطات في حال سجلت تلك الكاميرات ما يدعو للشك. ونصبت الدولة أيضاً حواجز صحية ثابتة تتبع بروتوكولات فحص أولي محددة، وصولاً إلى نقل الفرد في حال وجود شبهات بالمرض إلى جهات العلاقة لتجرى له كامل الفحوصات المخبرية والجسدية المطلوبة، وحتى لو اتضح عدم إصابة صاحب العلاقة بأي حمى فإنه يخضع لتصوير طبقي للرئتين، لضمان التحقق من عدم وجود مشاكل تذكر. وقد وظفت الدولة أيضاً أجهزة مجهزة بالبيانات الشخصية، بالتعاون مع شركة علي بابا، بحيث تم إصدار رمزٍ شريطي المعروف بـ”الكيو آر كود” لكل مواطن، بشكل يمكّن كل مواطن من استخدام تطبيق يقرأ هذا الرمز ويعطي لصاحبه معلوماتٍ طبية تخصه، مرتبطة بملفه الصحي ومؤشرات محددة حول احتمالية تعرضه للمرض من عدمه، عبر تصنيفات ثلاثة تتدرج من ضعيفٍ إلى ممكنٍ جداً، بحيث يتصرف صاحب العلاقة بما يتولد إليه من معلومات وبعلم الدولة. وتأكيداً على دور الفرد في إسناد الدولة، فقد تم حث أفراد المجتمع على التبليغ عن مصابين عبر إعلانات صوتية ونصية وتصويرية، تحمل قدراً كبيراً من الحزم، بحيث تخضع المقصرين للملاحقة الشرطية الآنية والتصرف المباشر وصولاً إلى الاعتقال الآني. كما طبقت الصين مفاهيم التباعد الاجتماعي، ودونما تهاون أو محسوبية بحيث خلت شوارع الدولة ومؤسساتها ومدارسها وجامعاتها من حركة الناس في مشهد يختلف عن ما اعتدنا عليه.

 

واستناداً للدور الرئيس للتكنولوجيا، فقد تم تفعيل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحبية، والبيانات الضخمة كلها، بغرض الكشف عن المرض أو التعامل معه وعلاجه. وهكذا فقد نجحت الصين في احتواء المرض وتقليل حجم الإصابات، وفق أرقام منظمة الصحة العالمية، ولن يكون مستغرباً أمام هذا الزخم العلمي والجهد الانضباطي الكبير أن تنجح من الإجهاز على المرض بصورة ربما تجعل من الصين ومن جديد عبرة لمن اعتبر. وقد تبدو الرقابة اللصيقة الموجودة، التي يعتبرها البعض استبداداً وتسلطاً وقمعاً، نعمة من نعم الصين التي مكنت الدولة من محاصرة محنة الكورونا الأليمة، حسبما يتوفر من معطيات.

 

أياً كانت المواقف فإننا بتنا أقرب من أي يومٍ مضى على نجاح الصين في تطوير نظامها وخبراتها وأجهزتها وعقاقيرها، في مواجهة الوباء بحيث تبيع للعالم مستقبلاً هذه الخبرات والتقنيات، لتسد ما تسبب به المرض من انتكاساتٍ ماليةٍ ضخمة، فتستعيد البلد صحتها الاقتصادية مع استعادة صحة الآخرين، ليس فقط ببيع ما طورته من تكنولوجيا وأنظمة ومعدات وأدوية وإنما من خلال حالة الانضباط والحزم، التي قادت إلى نجاحٍ مهم حتى تاريخ كتابة هذا المقال، في الحد من انتشار الوباء.

 

أياً كانت أحوال السياسة وقصص التاريخ، فإن العالم وفي تاريخه المعاصر شهد حقب ما قبل الثورة الصناعية وما بعدها، وما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها، وما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها، فهل ستشهد البشرية نظاماً عالمياً جديداً ما بعد كورونا وما أحدثته من هزات صحية واقتصادية هائلة؟ سننتظر ونرى جميعاً بعد أن تكتمل ضحكة الصين!